الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقيل: الوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل، واستعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريق الكتاية وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك، وإليه ذهب المعتزلة إلا أن منهم من جوز الوزن بالمعنى المتعارف عقلًا وإن لم يقض بثبوته كالعلاف وبشر بن المعتمر، ومنهم من أحاله لأن الأعمال أعراض وهي مما لا تبقى ومما لا يمكن إعادتها، سلمنا بقاءها أو إمكان إعادتها لكنها أعراض والأعراض يمتنع وزنها إذ لا توصف بثقل ولا خفة، سلمنا إمكان وزنها لكن لا فائدة في ذلك إذ المقصود إنما هو العلم بتفاوت الأعمال والله تعالى عالم بذلك وما لا فائدة فيه ففعله قبيح والرب تعالى منزه عن فعل القبيح، وجوابه يعلم مما قدمنا.وفسر هؤلاء الميزان بالعدل والإنصاف.واعترض الآمدي على ذلك بأن الميزان موصوف بالثقل والخفة، والعدل والإنصاف لا يوصفان بذلك، وفي الأخبار ما هو صريح في أن الميزان جسماني، فقد أخرج الحاكم وصححه عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السموات والأرض لوسع فتقول الملائكة: يا رب من يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: من شئت من خلقي فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك» وفي رواية ابن المبارك واللالكائي عنه قال: يوضع الميزان وله كفتان لو وضع في إحداهما السموات والأرض ومن فيهن لوسعه فتقول الملائكة من يزد هذا؟ الحديث.وأخرج ابن مردويه عن عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خلق الله تعالى كفتيْ الميزان مثل السموات والأرض فقال الملائكة: يا ربنا من تزن بهذا؟ فقال: أزن به من شئت» وفي بعض الآثار «أن الله تعالى كشف عن بصر داود عليه السلام فرأى من الميزان ما هاله حتى أغمي عليه فلما أفاق قال: يا رب من يملأ كفة هذا حسنات فقال جل شأنه: يا داود إذا رضيت عن عبد ملأتها بشق تمرة تصدق بها».إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة.فالأولى كما قال الزجاج اتباع ما جاء في الأحاديث ولا مقتضي للعدول عن ذلك، فإن قيل: إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور فيكفيه حكمه تعالى بكيفيات الأعمال وكمياتها وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات تلك الأعمال بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه فما الفائدة في الوزن؟ أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هي عليه وبأوصافها وأحوالها في أنفسها من الحسن والقبح وغير ذلك وتنخلع عن الصور المستعارة التي بها ظهرت في الدنيا فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها وإن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته ولا يخطر بباله خلاف ذلك قاله بعض المحققين والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.{فَمَن ثَقُلَتْ موازينه} تفصيل للأحكام المترتبة على الوزن، والموازين إما جمع ميزان وجمعه مع أن المشهور الصحيح أن الميزان مطلقًا واحد باعتبار تعدد الأوزان أو الموزونات، وكذا إذا قلنا بأن ميزان كل شخص واحد وفي الكلام مضاف مقدر أي كفة موازينه، وإما جمع موزون وإضافته للعهد، لترتب الفلاح على ذلك فالمراد الحسنات، والجمع على هذا ظاهر، وكذا لو قلنا إن لكل عمل ميزانًا {فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، والجمعية باعتبار معناه كما أن إفراد ضمير {موازينه} العائد إليه باعتبار لفظه، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة، وهو مبتدأ و{هُمْ} إما ضمير فصل يفصل به بين الخبر والصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند بالمسند إليه و{المفلحون} أي الفائزون بالنجاة والثواب خبر.وإما مبتدأ ثان و{المفلحون} خبره والجملة خبر المبتدأ الأول، وتعريف المفلحين للدلالة على أنهم الناس الذين بلغك أنهم مفلحون في الآخرة أو إشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصائصهم. اهـ.
.قال الشعراوي: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)}في هذه الآيات نجد الحديث عن الوزن للأعمال، وهذا كله تأكيد للحجة عليهم؛ فالله لا يظلم أحدًا، وفي وزن الأعمال إبطال للحجة من الذين يخافون النار، ولم يؤدوا حقوق الله في الدنيا، وكل ذلك ليؤكد الحجة، ويظهر الإنصاف ويقطع العذر، وهنا قول كريم يقول فيه الحق سبحانه: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة...} [الأنبياء: 47]هذه الموازين هي عين العدل، وليست مجرد موازين عادلة، بل تبلغ دقة موازين اليوم الآخر أنها هي عدل في ذاتها. وهنا يقول الحق: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق}. نعم، الميزان في هذا اليوم حق ودقيق، لنذكر انه قال من قبل: {مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160]والميزان الحق هو الذي قامت عليه عدالة الكون كله، وكل شيء فيه موزون، وسبحانه هو الذي يضع المقادير على قدر الحكمة والإِتقان والدقة التي يؤدي بها كل كائن المطلوبَ منه، ولذلك يقوله سبحانه: {والسماء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} [الرحمن: 7]ولم نر السماء قذفت وألقت علينا أحداثًا غير متوقعة منها، فالكون له نظام دقيق. والوزن في يوم القيامة هو مطلق الحق، ففي هذا اليوم تبطل موازين الأرض التي كانت تعاني إما خللًا في الآلة التي يوزن بها، وإمّا خللًا في الوزن، وإمّا أن تتأثر بأحداث الكون، وما يجري فيه من تفاعلات، أما ميزان السماء فلا دخل لأحد به ولا يتأثر إلا بقيمة ما عمل الإِنسان، وساعة يقول سبحانه: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق}.فكأن الميزان في الدنيا يمكن أن يحصل فيه خلل، وكذلك المِلْك أيضًا؛ لأنه سبحانه أعطى أسبابًا للملك المناسب لكل إنسان، فهذا يملك كذا، والثاني يملك كذا، والثالث يملك كذا، وبعد ذلك يتصرف كل إنسان في هذا الملك إن عدلًا، وإن ظلمًا على ضوء الاختيار. لكن حين يأتي اليوم الآخر فلا ملك لأحد: {... لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16]فالأمر حينئذ يكون كله لله وحده، فإن كان الملك في الدينا قد استخلف فيه الحق عباده، فهذه الولاية تنتهي في اليوم الآخر: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون}.وسبحانه هو القائل: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 6-11]إذن فالميزان يثقل بالحسنات، ويخف بالسيئات، ونلحظ أن القسمة العقلية لإِيجاد ميزان ووزان وموزون تقتضي ثلاثة أشياء: أن تثقل كفة، وتخف الأخرى، أو أن يتساويا، ولكن هذه الحال غير موجودة هنا. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:الوزن مبتدأ، وفي الخبر وجهان:أحدهما: هو الظَّرْف أي: الوزن كائن أو مستقرٌّ يومئذٍ أي: يوم إذ يُسْألُ الرُّسُلُ والمرسلُ إليهم.فحذف الجملة المضاف إليها {إذْ} وعوَّض منها التَّنْوين، هذا مذهب الجُمْهُور خلافًا للأخْفَش.وفي {الحقّ} على هذا الوجه ثلاثة أوجه:أحدها: أنه نَعْتٌ للوزن أي: الوزن الحق في ذلك اليوم.الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوفٍ كأنَّهُ جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ من قائل يقول: ما ذلك الوزن؟ فقيل: هو الحقُّ لا البَاطِلُ.الثالث: أنه بدلٌ من الذَّميرِ المستكن في الظَّرْفِ وهو غَرِيبٌ ذكره مَكِيٌّ.والثاني: من وجهي الخبر أن يكون الخبر {الحق}، و{يومئذ} على هذا فيه وجهان:أحدهما: أنَّهُ منصوب على الظَّرْفِ ناصبه {الوَزْنْ} أي: يقع الوَزْنُ ذلك اليوم.والثاني: أنَّهُ مفعول به على السَّعةِ وهذا الثاني ضعيفٌ جدًّا لا حَاجَةَ إليه.ولمَّا ذَكَرَ أبُو البقاءِ كون {الحق} خبرًا، وجعل {يَوْمئذٍ} ظرفًا للوزن قال: ولا يَجُوزُ على هذا أن يكون صِفَةً، لَئِلاّ يلزم الفَصْلُ بين المَوصُولِ وصِلَتِهِ.قال شهابُ الدِّين: وأين الفَصْلُ؟ فإن التركيبَ القرآنيَّ إنما جاء فيه {الحق} بعد تمام الموصول بصلته، وإذا تمَّ الموصول بصلته جاز أن يُوصَفَ.تقول: ضَرْبُكَ زَيْدًا يَوْمَ الجُمْعَةِ الشديدُ حسنٌ.فالشَّديدُ صفة لِضَربِكَ.فإنْ تَوَهَّمَ كون الصِّفَةِ محلُّها أن تقع بعد الموصوف وتليه، فَكَأنَّهَا مُقدَّمَةٌ في التَّقدير فَحَصَلَ الفَصْلُ تقديرًا فإن هذا لا يُلْتَفَتْ إليه؛ لأنَّ تلك المعمولات من تَتِمَّةِ الموصول فلم تل إلاَّ الموصول وعلى تقدير اعتقاد ذلك له، فالمَانِعُ من ذلك أيضًا صيرورةُ المبتدأ بلا خبر، لأنَّكَ إذا جعلت {يَومئذٍ} ظرَفًْا للوزن و{الحقُّ} صفته فأين خبره؟ فهذا لو سَلِمَ من المانع الذي ذكره كان فيه هذا المانع الآخر.وقد طوَّلَ مكيٌّ بذكر تقدير {الحقّ} على {يومئذ} وتأخيره عنهُ باعتبار الإعرابات المتقدمة، وهذا لا حَاجَةَ إليه لأنَّا مقيَّدُونَ في القرآن بالإتيان بِنَظْمِهِ.وذكر أيضًا أنه يجوز نصبه، يعني أنَّهُ لو قرئ به لكان جَائِزًا، وهذا أيضًا لا حاجة إليه.قوله: {مَوَازِيْنُهُ} فيها قولان:أحدهما: أنَّها جمع ميزان: الآلة التي يوزنُ بها، وإنَّمَا جمع؛ لأن كلَّ إنسانٍ له ميزان يخصُّه على ما جاء في التَّفْسير، أو جُمع باعتبار الأعمال الكثيرة وعبّر عن هذا الحال بالمحل.والثاني: أنَّها جمع موزون، وهي الأعمال، والجمع حينئذٍ ظاهر.قيل: إِنَّمَا جمع الميزان هاهنا، وفي قوله: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [الأنبياء: 47]؛ لأنَّه لا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزانٌ، ولأفعال الجوارح ميزانٌ، ولما يتعلق بالقول ميزان.وقال الزَّجَّاجُ: إنَّمَا جمع الموازين هاهنا لوجهين:الأوَّلُ: أنَّ العرب قد تُوقِعُ لَفْظَ الجَمْعِ على الواحد فيقولون: خرج فلان إلى مَكَّةَ راكبًا البِغَالَ.والثاني: أن الموازين هاهنا جمع موزون لا جمع ميزان.قال القرطبيُّ: والموازين جمع ميزان وأصلُهُ: مِوْزَانٌ قلبت الواوُ ياءٌ لكسرة ما قبلها. اهـ..تفسير الآية رقم (9): قوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)}.من أقوال المفسرين: .قال البقاعي: {ومن خفت} أي طاشت {موازينه} أي التي توزن فيها الأعمال الصالحة {فأولئك} المبعدون {الذين خسروا أنفسهم} أي التي هي رأس مالهم فكيف بما دونها {بما كانوا بآياتنا} أي على ما لها من العظمة {يظلمون} أي باستمرار ما يجددونه من وضعها في غير المحل الذي يليق بها فعل من هو في ظلام؛ قال الحسن، وحق الميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل، وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف. اهـ..قال الفخر: اعلم أن هذه الآية فيها مسائل:المسألة الأولى:أنها تدل على أن أهل القيامة فريقان منهم من يزيد حسناته على سيئاته، ومنهم من يزيد سيئاته على حسناته، فأما القسم الثالث وهو الذي تكون حسناته وسيئاته متعادلة متساوية فإنه غير موجود.
|